جبران خليل جبران - النبي
ترجمة عبدالكريم عجير
مدینة أورفالیس لسفینتھ التي كانت عائدة لأخذه إلى الجزیرة التي شھدت مولده
وفي السنة الثانیة عشرة، وفي السابع من أیلول، شھر الحصاد، اعتلى المصطفى
التل خلف أسوار المدینة، ونظر باتجاه البحر، فرأى سفینتھ قادمة بین الضباب
وعندھا انفرجت سرائر قلبھ، وطارت فرحتھ بعیدا عن البحر، وأغمض عینیھ وأخذ
یردد الصلوات بصمت في روحھ
لكن عندما ھبط من التل، لفھ الحزن، وأخذ یفكر في قرارة نفسھ: كیف لي أن أذھب
مطمئنا مرتاح البال؟ لن أغادر ھذه المدینة ألا وفي الروح جروح
طویلة كانت أیام الألم التي قضیتھا بین جدرانھا، وطویلة كانت لیالي وحدتي، ومن
ذا الذي یقدر على ترك ألمھ ووحدتھ بدون ندم؟
كثیرة ھي أشلاء الروح التي نثرتھا في ھذه الشوارع، وكثیرة ھي لواعج اشتیاقي
التي تجري عاریة بین التلال، فلا أستطیع أن أنشق عنھا بدون حمل وألم
وھي لیست برداء أتخلص منھ الیوم، بل جلدي أمزقھ بیدي
وھي لیست أیضا بفكرة أخلفھا ورائي، بل ھو قلب یولد الحلاوة ممزوجة بالجوع
والظمأ
ومع ذلك فلا أستطیع أن أتمھل أكثر
فالبحر الذي یھتف لكل شيء، یھتف لي، ولابد أن أمتطیھ
فإذا بقیت، فإني سأتجمد وأتبلور وأعلق في قالب برغم اللیل المشتعل الذي یحرق
الساعات
كم أود أن اخذ معي كل شيء ھنا، لكن أنى لي ذلك؟
الصوت لا یحمل معھ اللسان والشفتان التي أعطتھ أجنحة، لكنھ ینطلق وحیدا ینشد
الأثیر
كذلك حال النسر، فإنھ ینطلق عبر الشمس وحیدا دون عشھ
5
وألان وبعد أن أدرك المصطفى سفح التل، ولى وجھھ ثانیة نحو البحر، فأبصر
سفینتھ تدنو من المیناء، وفي مقدمتھا یقف البحارة القادمین من وطنھ
فترقرقت روحھ لھم وھتف قائلا
یا أبناء أمي العتیقة، یا راكبي الموج، كم أبحرتم في أحلامي، وألان تأتون في
یقضتي، التي ھي أعمق أحلامي
ھا قد أزف الرحیل، وقد حظرت لھفتي نفسھا منتظرة الریاح
لم یعد ھنالك غیر نفحة ریح أتنفسھا في ھذا الھواء الساكن، ولم یعد ھنالك غیر
نظرة حب واحدة أرمیھا خلفي
ثم أقف بینكم بحارا بین بحارة
وأنت أیھا البحر الواسع ، أیتھا الأم النائمة
یا من یجد النھر والجدول السلام والحریة فیك أنت وحدك
ماھي إلا التفافة أخرى لھذا الجدول، وھمسة أخرى لھذه الغابةأ عندھا ساتي الیك،
قطرة صغیرة في محیط لا حدود لھ
وبینما كان یسعى في طریقھ، لمح من بعید رجالا ونساءا تركوا حقولھم
وكرومھم، مسرعین ناحیة أبواب المدینة
فسمع أصواتھم تنادي اسمھ، وتصرخ من حقل الى حقل معلنة قدوم سفینتھ
وھندما دخل المصطفى المدینة، قدم إلى لقائھ كل سكانھا، ھاتفین لھ بصوت واحد،
وتقدم شیوخ المدینة وقالوا
لا تذھب بعیدا عنا
لقد كنت كشمس الظھیرة في شفق حیاتنا، ووھبنا شبابك أحلاما نحلمھا
لست غریبا بیننا لست ضیفا، بل ولدنا الحبیب
لا تجعل أعیننا تعاني اشتیاق وجھك
:فقال لھ الكھنة والكاھنات
لا تدع أمواج البحر تفرق بیننا الآن، ولا تجعل السنین التي قضیتھا بیننا تصبح
محض ذكرى
لقد سعیت بیننا روحا، وكان ظلك ضوءا یطل على وجوھنا
ما أشد ما أحببناك، لكنھ حبا صامتا وراء قناع، ولكنھ الآن یصرخ لك بملء شدقیھ،
ویقف عاریا أمامك
وھكذا كان الحب دائما ، لا یعرف مدى عمقھ إلا الفراق
6
وقدم الیھ قوم اخرون متوسلین، ولكنھ اثر الصمت، ثم أطرق، فرأى الواقفون
بجواره دموعا تسیل على صدره
وأستأنف ھو والقوم المسیر الى الساحة الكبرى أمام المعبد
فخرجت من بین الملجأ إمرأة تدعى المیترا، لقد كانت عرافة
فنظر إلیھا نظرة ملؤھا الحنان، فقد كانت أول من سعى الیھ وامن بھ منذ یومھ
الاول في المدینة، ورحبت بھ المیترا قائلة
یانبي الله، أیھا الساعي وراء أقصى الغایات، أیھا الباحث عن سفینتھ طویلا في
الافاق
والان وقد أتت سفینتك، وأصبح رحیلك لامفر منھ
ما أشد حنینك الى أرض ذكریاتك، وموطن رغباتك العظام، فلن یقیدك حبنا، ولن
تكبح رغباتنا جماحك
ولكننا نسألك قبل ان تتركنا، أن تحدثنا وتعطینا بعضا من دررك، وسنعطیھا لأبنائنا
من بعدنا، وسیعطونھا لأولادھم، ولن تفنى
في وحدتك إتصلت بأیامنا، وفي یقضتك استمعت الى نحیب وضحكات نومنا
والان نتطلع الى ان تكشف لنا خبایانا، وتطلعنا بكل ما وسسعت علما عن مایدور
بین الحیاة والموت
فأجابھم المصطفى، یا أھل أورفالیس، ما أنا محدثكم ألا بما یجول في خاطركم
ثم قالت المیترا: حدثنا عن الحب
فرفع رأسھ ونظر الى الناس، فوقع علیھم السكون، وبصوت عال
قال
عندما یومئ الحب فأتبعوه ، مھما كانت دروبھ صعبة ووعرة
وعندما تطوقكم أجنحتھ، فأذعنوا لھ حتى وإن جرحك سیفھ المخفي بین قوادمھ
وعندما یحدثكم، فصدقوه ، وإن استطاع صوتھ أن یبعثر أحلامكم كما تبعثر ریح
الشمال بالبستان
وكما أن الحب یكلل رؤوسكم، فكذلك یصلب أجسادكم
وكما أنھ یعینكم على النضوج، فكذلك یھذب أخلاقكم
7
وكما یصعد الى قمم ھاماتكم ویداعب أغصانكم الطریة التي تختال في ضوء
الشمس، فكذلك یھبط الى جذوركم المتشبثة بالارض فیھزھا
ویضمكم الى حضنة كما یضم حزم الذرة
ویدرسكم كي یعریكم
ثم یغربلكم كي یجردكم من القشور
ثم یطحنكم فیجعل منكم دقیقا ابیضا
ثم یعجنكم لیلین من قدركم
ومن ثم یسلمكم الى ناره المقدسة على أن تصبحوا خبزا مقدسا لولیمة الرب
المقدسة
كل ھذه الاشیاء یفعلھا الحب بكم حتى تعرفوا أسرار قلوبكم، وبھذه المعرفة
تصبحون قطعة من قلب الحیاة
ولكن اذا بحثتم عن متعة الحب وسكونھ بسبب خوفھ،فمن الأحرى ان تغطوا
عوراتكم وتغادروا مھد حبكم الى عالم خال من الفصول حیث تضحكون ولكن بدون
استرسال، وتبكون ولكن بدون نحیب
الحب لا یعطي الا نفسھ ولا یا خذ الا نفسھ، الحب لا یملك ولا یملك، فالحب كاف
للحب
اذا احببت فلا تقل : لقد شمل قلبي الله، ولكن قل : لقد شملني قلب الله
ولا تعتقد بأنك قادر على قیادة دفة الحب، لأن الحب ھو من یقودك اذا وجدك حریا
بھ
فالحب لیس لھ مآرب غیر تحقیق كیانھ
فإذا أحببت ولم یكن لك بد من أن تساورك بعض الرغبات، فلتكن ھذه رغباتك
أن تذوب لتصبح كالجدول الجاري یشدو بألحانھ للیل
وأن تعرف معنى الالم النابع من فیض الحنان
وأن تتقبل الجرح النابع من فھم ذاتك لمعنى الحب
8
وأن تكون مستعدا لتضحي بدمك فرحا
وأن تنھض فجرا بقلب مجنح شاكرا یوما جدیدا في الحب
وان ترتاح وقت الظھیرة متلذذا بنشوة الحب
وان تعود مساءا الى منزلك یشع قلبك بالامتنان
ثم تخلد للنوم وفي قلبك دعاء لمن تحب، وتعلو شفتیك أغنیة الحمد
**********************
ثم تحدثت المیترا مجددا قائلة : ماذا عن الزواج أیھا المعلم
فأجاب قائلا
لقد ولدتما معا، وستبقیان معا الى الابد
ستبقیان معا عندما تبدد أجنحة الموت البیضاء أیامكم
أجل، ستبقیان معا، في علم الله الغیبي
ولكن، فلتجعلوا بین التقائكم مساحات
ولتجعلوا أجنحة السماوات ترقص بینكم
فلتحبوا بعضكم، ولكن لا تجعلوا الحب قیدا
بل اجعلوه بحرا متدفقا الى شواطئ أرواحكم
ولیملئ كل منكم كأس الاخر، ولكن لاتشربوا من نفس الكأس
ولیعط كل منكم من خبزه للآخر، ولكن لا تأكلوا من نفس الرغیف
وغنوا وأرقصوا وأمرحوا معا، ولكن لیخلو كل شخص الى شأنھ
لأن أوتار القیثارة مشدودة كل على حده، لكنھا تشدو بلحن واحد
أوھبوا قلوبكم، ولكن لا یستأثر بھ أحد
لأن ید الحیاة ھي وحدھا من تستطع ضم القلب
ولتقفا معا، ولكن دون أن تقتربا من بعضكما
لأن أعمدة المعبد تقوم على انفصال
فالبلوط والسرو لاینمو كل منھما في ظل الاخر
****************************
9
ثم قالت أمرأة : حدثنا عن الفرح والحزن
فأجاب الصطفى
فرحكم ھو حزنكم امیط عنھ اللثام
وكثیرا ما یمتلىء البئر الذي تستسقون منھ ضحكاتكم بدموعكم
وكیف یكون غیر ذلك؟
فكلما توغل الحزن في أعماقكم، كلما زاد إحتوائكم للفرح
أولیس الكأس التي تحتوي خمركم، ھي نفسھا الكأس التي إحترقت في سعیر
الفخاري؟
أولیس القیثارة التي تطرب أرواحكم، ھي نفسھا قطعة الخشب التي حفرت
بالسكاكین؟
عندما ینتابك الفرح، فأنظر الى أعماق قلبك، ستجد بأنك تفرح بما كان یوما سبب
حزنك
وعندما یغمرك الحزن، فأنظر الى أعماق قلبك من جدید، ستجد بأنك تحزن بما كان
یوما سبب فرحك
یقول بعض الناس : الفرح أسمى من الحزن، ویقول البعض الاخر : أنما الحزن
أسمى، ولكني أقول لكم أنھما متلازمان
معا یأتیان ، وعندما یخلو بك أحدھما على مائدتك، فأعلم بأن الاخر ینتظرك في
فراشك
وقطعا فإنكم لمعلقون مثل كفتي المیزان بین أحزانكم وأفراحكم
وعندما تخلو بكم مشاعركم، عندھا تصبحون جامدین وتتساوى الكفتان
وحین یرفعك الوزان لیزن مافیك من ذھب وفضة، فلا بد من أن تثقل موازین
فرحكم وحزنكم أو تخف
10
***********************
وقال خطیب : حدثنا عن الحریة
فأجاب المصطفى
لقد رأیتكم عند بوابة المدینة وفي أفنیة منازلكم تخرون سجدا وتعبدون حریتكم
كالعبید یذلون أنفسھم أمام الطاغیة، ویسبحون بحمده مع أنھ جلادھم
نعم، لقد رأیت في حدیقة المعبد وفي ظلال الحصن أكثركم إتقادا بالحریة یرتدونھا
وكأنھا ربطة في أعناقھم وقید في سواعدھم
وإن قلبي لیقطر دما علیكم، لانكم لن تحظوا بحریتكم الا اذا اصبحت رغبتكم في
الحصول على حریتكم عنانا صعب المنال، أو أن تكفوا الحدیث عنھا وكأنھا ھدف
تسعون للوصول الیھ أو إنجازا تحققوه
ستصبحون حقا أحرارا عندما لا تخلوا أیامكم من القلق، وعندما لا تخلوا لیالیكم من
الرغبة والحزن
حتى وإن طوقت حیاتكم ھذه الاشیاء فأنكم ستسمون علیھا متحررین من قیودھا
ولن تسموا على ھذه الایام واللیالي الا اذا كسرتم القیود التي ربطتموھا مع فجر
میلادكم وكبلتم بھا شمس ظھیرتكم
وللحق فإن ماتسمونھ الحریة ھو أشد ھذه القیود ، وإن كانت حلقاتھ تلمع في ضوء
الشمس فتخطف أبصاركم
وما ھذه الاغلال الا بعض من نفسك ترید التخلص منھا لتحصل على حریتك التي
تنشدھا
واذا كنت ترید ان تبطل قانونا جائرا، فإنك انت من كتبھ وسطره على جبینھ
فلن تستطیع محوه بأن تحرق كتب القوانین التي كتبتھا، أو أن تغسل جباه قضاتك،
حتى وإن استعنت بمیاه البحر
واذا كنت ترید أن تسقط عرش طاغیة، فتأكد أولا من تحطم عرشھ الذي بنیتھ لھ
في نفسك
11
فكیف یستطیع طاغیة أن یحكم الحر منكم والعزیز، الا اذا خالط حریتھ الاستبداد،
وشاب فخره العار ؟
وان كنت ترید التخلص من ھما، فإنك من إختار ذلك الھم لنفسھ ولم یفرظھ علیك
أحد
وان كنت ترید ان تشتت خوفا، فإنھ قابع في قلبك ولیس في ید من تخاف
وقطعا فإن كل الامور التي تتحرك بداخلك تكاد تتعانق، المرغوب منھا والمرھوب،
الممقوت والمحبوب، المنشود والمنفر
تتحرك ھذه الاشیاء بداخلك كما لو كانت متعانقة كالضوء وظلھ
وعندما یتلاشى الضوء ویختفي، فإن الضوء المتأني یصبح ظلا لضوء آخر
وھكذا فإن حریتكم عندما تكسر قیودھا فإنھا تصبح قیودا لحریة أعظم
**************************
وقال شاب : حدثنا عن الصداقة
فأجاب المصطفى قائلا
صدیقك ھو حاجاتك تم قضائھا
وھو أرضك التي تزرعھا بكل حب، وتجنیھا بكل امتنان
وھو مائدتك ومدفأتك
لأنك تقصده جائعا، وتنشد عنده الطمأنینة
وعندما یفضي إلیك بمكنونھ، فلا تخشى أن تصارحھ ب ((لا)) أو ان تخفي علیھ ال
((نعم))ا
فإن لم ینبس بكلمة، فإن قلبك لا یتوقف عن سماع قلبھ
ففي الصداقة، تولد الأفكار والرغبات والاماني في صمت، و تتشاركھا النفوس
ببھجة مخفیة
12
فعندما تنأى عن صدیقك، فلا یصیبك الحزن،
لان اشد ماتحبھ في صدیقك، سیبدو أوضح في غیابھ، كالجبل في عیون متسلقیھ،
یزید وضوحا عند رؤیتھ من الوادي
ولا تجعل في الصداقة ھدفا غیر التوغل في الروح
لان الحب الذي لا ینشد شیئا غیر الكشف عن أحاجیھ، لیس حبا بل شبكة ترمى فلا
تصطاد الا مالا ینفع
ولتجعل خیر مافیك لصدیقك
فإذا كان لابد لھ أن یعلم مایصیبك من مد و جزر، فدعھ یعلم أیضا مایغمرك
فأي صدیق ھذا الذي تنشد فیھ قتل وقت الفراغ؟
بل انشده اتقضي معھ ساعات حیاتك
فصدیقك ھو الذي یقضي لك حاجتك، لا لیملئ فراغ حیاتك
فلتجعل ھنالك ضحكة ممزوجة بحلاوة صداقتك مشتركة ببھجة
ففي الندى الذي یبلل صغائر الاشیاء، فإن قلبك یجد صباحھ ویحیا من جدید
******************
وما أن انتھى من حدیثھ، نظر حولھ، فرأى قبطان سفینتھ واقفا أمام الدفة، وینظر
تارة نحو الاشرعة وتارة أخرى نحو الافق
فقال
یا لھ من صبور، صبور قبطان سفینتي
تھب الریاح، والأشرعة قلقة،
حتى الدفة تتوسل الى من یقودھا
ومع ذلك فقبطان سفینتي یرقب صمتي بھدوء
وھؤلاء البحارة الذین سمعوا أناشید البحر العظیم، لقد استمعوا الي أیضا بصبر
ولكن الآن لن ینتظروا الي أكثر، لقد شددت الرحال
لقد أدرك الجدول البحر، وتضم الأم الكبرى ابنھا الصغیر مرة أخرى
وداعا یا أھالي أورفالیس، فقد بلغ ھذا الیوم نھایة
فھا ھو یرخي سدولھ كما یسدل سوسن الماء أوراقھ على یومھ التالي
13
